سورة الزخرف - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


تعرض هذه السورة جانباً مما كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات؛ ومن جدال واعتراضات. وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس؛ وكيف يقرر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مكان الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلية الزائفة، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك، ولا يزال جانب منها قائماً في النفوس في كل زمان ومكان.
كانت الوثنية الجاهلية تقول: إن في هذه الأنعام التي سخرها الله للعباد، نصيباً لله، ونصيباً لآلهتهم المدعاة: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً. فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم} وكانت لهم في الأنعام أساطير شتى وخرافات أخرى كلها ناشئ من انحرافات العقيدة. فكانت هناك أنواع من الأنعام محرمة ظهورها على الركوب وأنواع محرمة لحومها على الأكل: {وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه} وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية؛ ورد النفوس إلى الفطرة وإلى الحقائق الأولى. فالأنعام من خلق الله، وهي طرف من آية الحياة، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعاً. وقد خلقها الله وسخرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها؛ لا ليجعلوا له شركاء، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله؛ بينما هم يعترفون بأن الله هو الخالق المبدع؛ ثم هم ينحرفون عن مقتضى هذه الحقيقة التي يقرون بها، ويعزلونها عن حياتهم الواقعة، ويتبعون خرافات وأساطير: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون، والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون}..
وكانت الوثنية الجاهلية تقول: إن الملائكة بنات الله؛ ومع أنهم هم يكرهون مولد البنات لهم، فإنهم كانوا يختارون لله البنات! ويعبدونهم من دونه، ويقولون: إننا نعبدهم بمشيئة الله ولو شاء ما عبدناهم! وكانت مجرد أسطورة ناشئة من انحراف العقيدة.
وفي هذه السورة يواجههم بمنطقهم هم؛ ويحاجهم كذلك بمنطق الفطرة الواضح، حول هذه الأسطورة التي لا تستند إلى شيء على الإطلاق: {وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين.. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسوداً وهو كظيم.
أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم! ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون!}..
ولما قيل لهم: إنكم تعبدون أصناماً وأشجاراً وإنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، وقيل لهم: إن كل معبود من دون الله هو وعابدوه في النار. حرفوا الكلام الواضح البين، واتخذوا منه مادة للجدل. وقالوا: فما بال عيسى وقد عبده قومه؟ أهو في النار؟! ثم قالوا: إن الأصنام تماثيل الملائكة والملائكة بنات الله. فنحن في عبادتنا لهم خير من عبادة النصارى لعيسى وهو بشر له طبيعة الناس!
وفي هذه السورة يكشف عن التوائهم في هذا الجدل؛ ويبرئ عيسى عليه السلام مما ارتكبه أتباعه من بعده وهو منه برئ: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون. وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لنبي إسرائيل..} وقد كانوا يزعمون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم، وأنهم بذلك أهدى من أهل الكتاب وأفضل عقيدة. وهم في هذه الجاهلية الوثنية يخبطون.
فبين لهم في هذه السورة حقيقة ملة إبراهيم، وأنها ملة التوحيد الخالص، وأن كلمة التوحيد باقية في عقبه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءهم بها، ولكنهم استقبلوها واستقبلوه بغير ما كان ينبغي من ذرية إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون. بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين. ولما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون...}..
ولم يدركوا حكمة اختيار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ووقفت في وجوههم القيم الأرضية الزائفة الزهيدة التي اعتادوا أن يقيسوا بها الرجال.
وفي هذه السورة يحكي تصوراتهم وأقوالهم في هذا الصدد؛ ويرد عليها ببيان القيم الحقيقية، وزهادة القيم التي يعتبرونها هم ويرفعونها: {وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين} ثم جاء بحلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون، يبدو فيها اعتزاز فرعون بمثل تلك القيم الزائفة، وهوانها على الله، وهوان فرعون الذي اعتز بها، ونهايته التي تنتظر المعتزين بمثل ما اعتز به:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فقال: إني رسول رب العالمين. فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون. وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون. وقالوا: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك، إننا لمهتدون. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون. ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؛ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين! فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين، فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً ومثلا للآخرين} حول تلك الأساطير الوثنية والانحرافات الاعتقادية، وحول تلك القيم الصحيحة والزائفة، تدور السورة، وتعالجها على النحو الذي تقدم. في أشواط ثلاثة تقدم أولها قبل هذا وأشرنا إلى بعض مادة الأشواط الأخرى في بعض المقتطفات من آيات السورة. فلنأخذ في التفصيل:
{حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم. أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟ وكم أرسلنا من نبي في الأولين. وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون. فأهلكنا أشد منهم بطشاً، ومضى مثل الأولين}..
تبدأ السورة بالحرفين: {حا. ميم} ثم يعطف عليهما قوله: {والكتاب المبين}.. ويقسم الله سبحانه بحاميم كما يقسم بالكتاب المبين. وحاميم من جنس الكتاب المبين، أو الكتاب المبين من جنس حا ميم. فهذا الكتاب المبين في صورته اللفظية من جنس هذين الحرفين. وهذان الحرفان كبقية الأحرف في لسان البشر آية من آيات الخالق، الذي صنع البشر هذا الصنع، وجعل لهم هذه الأصوات. فهناك أكثر من معنى وأكثر من دلالة في ذكر هذه الأحرف عند الحديث عن القرآن.
يقسم الله سبحانه بحا ميم والكتاب المبين، على الغاية من جعل هذا القرآن في صورته هذه التي جاء بها للعرب:
{إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}..
فالغاية هي أن يعقلوه حين يجدونه بلغتهم وبلسانهم الذي يعرفون. والقرآن وحي الله سبحانه وتعالى جعله في صورته هذه اللفظية عربياً، حين اختار العرب لحمل هذه الرسالة، للحكمة التي أشرنا إلى طرف منها في سورة الشورى؛ ولما يعلمه من صلاحية هذه الأمة وهذا اللسان لحمل هذه الرسالة ونقلها. والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ثم يبين منزلة هذا القرآن عنده وقيمته في تقديره الأزلي الباقي:
{وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.
ولا ندخل في البحث عن المدلول الحرفي لأم الكتاب ما هي: أهي اللوح المحفوظ، أم هي علم الله الأزلي. فهذا كهذا ليس له مدلول حرفي محدد في إدراكنا. ولكننا ندرك منه مفهوماً يساعد على تصورنا لحقيقة كلية. وحين نقرأ هذه الآية: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.. فإننا نستشعر القيمة الأصيلة الثابتة لهذا القرآن في علم الله وتقديره. وهذا حسبنا. فهذا القرآن {عليّ}.. {حكيم}.. وهما صفتان تخلعان عليه ظل الحياة العاقلة. وإنه لكذلك! وكأنما فيه روح. روح ذات سمات وخصائص، تتجاوب مع الأرواح التي تلامسها. وهو في علوه وفي حكمته يشرف على البشرية ويهديها ويقودها وفق طبيعته وخصائصه. وينشئ في مداركها وفي حياتها تلك القيم والتصورات والحقائق التي تنطبق عليها هاتان الصفتان: علي. حكيم.
وتقرير هذه الحقيقة كفيل بأن يشعر القوم الذين جعل القرآن بلسانهم بقيمة الهبة الضخمة التي وهبها الله إياهم، وقيمة النعمة التي أنعم الله عليهم؛ ويكشف لهم عن مدى الإسراف القبيح في إعراضهم عنها واستخفافهم بها؛ ومدى استحقاقهم هم للإهمال والإعراض؛ ومن ثم يعرّض بهم وبإسرافهم، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف:
{أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟}..
ولقد كان عجيباً وما يزال أن يعنى الله سبحانه في عظمته وفي علوه وفي غناه بهذا الفريق من البشر، فينزل لهم كتاباً بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم، ويبين لهم طريق الهدى، ويقص عليهم قصص الأولين، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين.. ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون!
وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته، جزاء إسرافهم القبيح!
وإلى جانب هذا التهديد يذكرهم بسنة الله في المكذبين، بعد إرسال النبيين:
{وكم أرسلنا من نبي في الأولين، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون. فأهلكنا أشد منهم بطشاً، ومضى مثل الأولين}..
فماذا ينتظرون هم وقد أهلك الله من هم أشد منهم بطشاً، حينما وقفوا يستهزئون بالرسل كما يستهزئون؟
والعجيب كان في أمر القوم أنهم كانوا يعترفون بوجود الله، وخلقه للسماوات والأرض. ثم لا يرتبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية من توحيد الله، وإخلاص التوجه إليه فكانوا يجعلون له شركاء، يخصونهم ببعض ما خلق من الأنعام؛ كما كانوا يزعمون أن الملائكة بناته، ويعبدونهم من دونه في صورة أصنام!
والقرآن يعرض اعترافهم، ويرتب عليه نتائجه، ويوجههم إلى منطق الفطرة الذي يجانبونه، وإلى السلوك الواجب تجاه نعمته عليهم فيما خلق لهم من الفلك والأنعام. ثم يناقشهم بمنطقهم في دعواهم عن الملائكة:
{ولئن سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم.
الذي جعل لكم الأرض مهداً، وجعل لكم فيها سبلاً لعلكم تهتدون. والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتاً، كذلك تخرجون. والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون. لتستووا على ظهوره، ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين؛ وإنا إلى ربنا لمنقلبون}..
لقد كانت للعرب عقيدة نظن أنها بقايا من الحنيفية الأولى ملة إبراهيم عليه السلام، ولكنها بهتت وانحرفت ودخلت فيها الأساطير وقد بقي منها ما لا تملك الفطرة إنكاره من وجود خالق لهذا الكون، وأنه هوالله، فما يمكن في منطق الفطرة وبداهتها أن يكون هذا الكون قد نشأ هكذا من غير خالق؛ وما يمكن أن يخلق هذا الكون إلا الله. ولكنهم كانوا يقفون بهذه الحقيقة التي تنطق بها بداهة الفطرة عند شكلها الظاهر، ولا يعترفون بما وراءها من مقتضيات طبيعية لها:
{ولئن سألتهم: من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم...}..
وواضح أن هاتين الصفتين: {العزيز العليم} ليستا من قولهم. فهم كانوا يعترفون بأن الذي خلقهن هو الله.. ولكنهم لم يكونوا يعرفون الله بصفاته التي جاء بها الإسلام. هذه الصفات الإيجابية التي تجعل لذات الله في نفوسهم أثراً فعالاً في حياتهم وحياة هذا الكون. كانوا يعرفون الله خالقا لهذا الكون، وخالقاً لهم كذلك. ولكنهم كانوا يتخذون من دونه شركاء. لأنهم لم يعرفوه بصفاته التي تنفي فكرة الشرك، وتجعلها تبدو متهافتة سخيفة.
والقرآن هنا يعلمهم أن الله، الذي يعترفون بأنه خالق السماوات والأرض، هو {العزيز العليم}.. فهو القوي القادر، وهو العليم العارف. فيبدأ بهم من اعترافهم، ويخطو بهم الخطوات التالية لهذا الاعتراف.
ثم يمضي بهم خطوة أخرى في تعريف الله سبحانه بصفاته؛ وفي بيان فضله عليهم بعد الخلق والإنشاء:
{الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلاً، لعلكم تهتدون}..
وحقيقة جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور. والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير، وأمامهم ممهدة للزرع، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء. ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن؛ وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق، ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم، وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.
ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهداً لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار، حتى صار مهداً لبني الإنسان.
وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع؛ وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين؛ واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة؛ وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه، وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء؟
ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية، فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة؛ ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه، كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها، فأفلت هواؤها كالقمر مثلاً! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشئ من حركة الأرض؛ فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر؛ وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض؛ ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقاً، أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحياناً بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا! ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لانفجر الصدر والشرايين انفجاراً!
ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهداً وتذليل السبل فيها للحياة، أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له؛ ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت. فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا، ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة. ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسيجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها؛ ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان.
وهكذا. وهكذا. من المدلولات الكثيرة لحقيقة: {جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً} تكشف لنا في كل يوم؛ وتضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة. وكلها تشهد بالقدرة كما تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم. وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة، في حيثما امتد بصره، وتلفت خاطره؛ وأنه غير مخلوق سدى، وغير متروك لقى؛ وأن هذه اليد تمسك به، وتنقل خطاه، وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة، وقبل الحياة، وبعد الحياة!
{لعلكم تهتدون}.. فإن تدبر هذا الكون، وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون، ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب.
ثم يخطو بهم خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء، بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة:
{والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتاً، كذلك تخرجون}..
والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان؛ ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز، لطول الألفة والتكرار. فأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلقى قطراته في حب وفي ترحيب وفي حفاوة وفي استبشار؛ لأنها قادمة إليه من عند الله. ذلك أن قلبه الحي كان يدرك صنع الله الحي في هذه القطرات، ويرى يد الصناع! وهكذا ينبغي أن يتلقاها القلب الموصول بالله ونواميسه في هذا الوجود. فهي وليدة هذه النواميس التي تعمل في هذا الكون وعين الله عليها ويد الله فيها في كل مرة وفي كل قطرة. ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة، ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض المتكاثف في أجواز الفضاء. فمن أنشأ هذه الأرض؟ ومن جعل فيها الماء؟ ومن سلط عليها الحرارة؟ ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة؟ ومن أودع البخار خاصية الارتفاع؛ وخاصية التكثف في أجواز الفضاء؟ ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحوناً بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء؟ وما الكهرباء؟ وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء؟ إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب، بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب!
{والذي نزل من السماء ماء بقدر}..
فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق؛ ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة؛ ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة، ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما أرادها الله.
{فأنشرنا به بلدة ميتاً}..
والإنشاء الإحياء. والحياة تتبع الماء. ومن الماء كل شيء حي.
{كذلك تخرجون}..
فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها؛ والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة، كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة. فالإعادة من البدء؛ وليس فيها عزيز على الله.
ثم هذه الأنعام التي يجعلون منها جزءاً لله وجزءاً لغير الله، وما لهذا خلقها الله؛ إنما خلقها لتكون من نعم الله على الناس، يركبونها كما يركبون الفلك، ويشكرون الله على تسخيرهما، ويقابلون نعمته بما تستحقها:
{والذي خلق الأزواج كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون، لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه، وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا منقلبون}.
والزوجية هي قاعدة الحياة كما تشير إليها هذه الآية. فكل الأحياء أزواج، وحتى الخلية الواحدة الأولى تحمل خصائص التذكير والتأنيث معها. بل ربما كانت الزوجية هي قاعدة الكون كله لا قاعدة الحياة وحدها إذا اعتبرنا أن قاعدة الكون هي الذرة المؤلفة من الكترون سالب وبروتون موجب، كما تشير البحوث الطبيعية حتى الآن.
وعلى أية حال فالزوجية في الحياة ظاهرة؛ والله هو الذي خلق الأزواج كلها من الإنسان وغير الإنسان: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون}..
يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات. ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة؛ لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة:
{لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}.. فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام.
ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه. وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات:
{وإنا إلى ربنا لمنقلبون}..
هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم، يوجهنا الله إليه، لنذكره كما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا، والتي نتقلب بين أعطافها. ثم ننساه..!
والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير. فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان! إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده؛ وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم، وهو محض الفضل والإنعام، بلا مقابل منهم، فما هم بقادرين على شئ يقابلون به فضل الله. ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب.. وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله. ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان.
بعد ذلك يعالج أسطورة الملائكة واتخاذهم آلهة بزعم أنهم بنات الله، وهم عباد الله:
{وجعلوا له من عباده جزءاً. إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟ وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين؟ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يخرصون. أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون؟ بل قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون.
وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال: أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون. فانتقمنا منهم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين}..
إن هذا القرآن يحاصر هذه الأسطورة ويواجهها في نفوسهم من كل جانب، ولا يبقي ثغرة مفتوحة حتى يأخذها عليهم، ويواجههم في هذا كله بمنطقهم ومسلماتهم وواقع حياتهم، كما يواجههم بمصير الذين وقفوا مثل وقفتهم، وقالوا مثل قولتهم من الغابرين.
ويبدأ بتصوير سخف هذه الأسطورة وتهافتها، ومقدار ما في القول بها من كفر صريح:
{وجعلوا له من عباده جزءاً، إن الإنسان لكفور مبين}..
فالملائكة عباد الله، ونسبة بنوتهم له معناها عزلهم من صفة العبودية، وتخصيصهم بقرابة خاصة بالله؛ وهم عباد كسائر العباد، لا مقتضى لتخصيصهم بصفة غير صفة العبودية في علاقتهم بربهم وخالقهم. وكل خلق الله عباد له خالصو العبودية. وادعاء الإنسان هذا الادعاء يدمغه بالكفر الذي لا شبهة فيه: {إن الإنسان لكفور مبين}.
ثم يحاجهم بمنطقهم وعرفهم، ويسخر من سخف دعواهم أن الملائكة إناث ثم نسبتهم إلى الله:
{أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين؟}..
فإذا كان الله سبحانه متخذاً أبناء، فماله يتخذ البنات ويصفيهم هم بالبنين؛ وهل يليق أن يزعموا هذا الزعم بينما هم يستنكفون من ولادة البنات لهم ويستاءون:
{وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}..
أفما كان من اللياقة والأدب ألا ينسبوا إلى الله من يستاءون هم إذا بشروا به، حتى ليسود وجه أحدهم من السوء الذي يبلغ حداً يجل عن الصريح به، فيكظمه ويكتمه وهو يكاد يتميز من السوء؟! أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن ينشأ في الحلية والدعة والنعومة، فلا يقدر على جدال ولا قتال؛ بينما هم في بيئتهم يحتفلون بالفرسان والمقاويل من الرجال؟!
إنه يأخذهم في هذا بمنطقهم، ويخجلهم من انتقاء ما يكرهون ونسبته إلى الله. فهلا اختاروا ما يستحسنونه وما يسرون له فنسبوه إلى ربهم، إن كانوا لا بد فاعلين؟!
ثم يحاصرهم هم وأسطورتهم من ناحية أخرى. فهم يدعون أن الملائكة إناث. فعلام يقيمون هذا الادعاء؟
{وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون}..
أشهدوا خلقهم؟ فعلموا أنهم إناث؟ فالرؤية حجة ودليل يليق بصاحب الدعوى أن يرتكن إليه. وما يملكون أن يزعموا أنهم شهدوا خلقهم. ولكنهم يشهدون بهذا ويدعونه، فليحتملوا تبعة هذه الشهادة بغير ما كانوا حاضريه: {ستكتب شهادتهم ويسألون}..
ثم يتابع الفرية وما يصوغونه حولها من جدل واعتذار:
{وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم}.


لقد كانت قريش تقول: إنها من ذرية إبراهيم وهذا حق وإنها على ملة إبراهيم وهذا ما ليس بحق فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة، لا لبس فيها ولا غموض؛ ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرض للقتل والتحريق؛ وعليها قامت شريعته، وبها أوصى ذريته. فلم يكن للشرك فيها ظل ولا خيط رفيع!
وفي هذا الشوط من السورة يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون.. ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}.. ويناقش قولتهم هذه، وما تنطوي عليه من خطأ في تقدير القيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة، والقيم الزائفة التي تخايل لهم وتصدهم عن الحق والهدى.. وعقب تقرير الحقيقة في هذه القضية يطلعهم على عاقبة المعرضين عن ذكر الله بعد أن يطلعهم على علة هذا العمى وهو من وسوسة الشيطان.. ويلتفت في نهاية هذا الدرس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يسليه ويؤسيه عن إعراضهم وعماهم، فما هو بهادي العمي أو مسمع الصم؛ وسيلقون جزاءهم سواء شهد انتقام الله منهم، أو أخره الله عنهم. ويوجهه إلى الاستمساك بما أوحى إليه فإنه الحق، الذي جاء به الرسل أجمعون. فكلهم جاءوا بكلمة التوحيد: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟}..
ثم يعرض من قصة موسى عليه السلام حلقة تمثل هذا الواقع من العرب مع رسولهم. وكأنما هي نسخة مكررة تحوي ذات الاعتراضات التي يعترضونها، وتحكي اعتزاز فرعون وملئه بذات القيم التي يعتز بها المشركون..
{وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}..
إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم. الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة، غير منساق وراء عبادتهم الموروثة، ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها؛ بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منه في لفظ واضح صريح، يحكيه القرآن الكريم بقوله:
{إنني براء مما تعبدون، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}..
ويبدو من حديث إبراهيم عليه السلام وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً؛ إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه، فتبرأ من كل ما يعبدون، واستثنى الله؛ ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداء، وهو أنه فطره وأنشأه، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجد. وقرر يقينه بهداية ربه له، بحكم أنه هو الذي فطره؛ فقد فطره ليهديه؛ وهو أعلم كيف يهديه.
قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة. كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود. قالها:
{وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}..
ولقد كان لإبراهيم عليه السلام أكبر قسط في إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده، عن طريق ذريته وعقبه. ولقد قام بها من بنيه رسل، كان منهم ثلاثة من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل عليهم صلوات الله وسلامه واليوم بعد عشرات القرون يقوم في الأرض أكثر من ألف مليون، من أتباع الديانات الكبرى يدينون بكلمة التوحيد لأبيهم إبراهيم، الذي جعل هذه الكلمة باقية في عقبه، يضل منهم عنها من يضل، ولكنها هي باقية لا تضيع، ثابتة لا تتزعزع، واضحة لا يتلبس بها الباطل {لعلهم يرجعون}.. يرجعون إلى الذي فطرهم فيعرفوه ويعبدوه. ويرجعون إلى الحق الواحد فيدركوه ويلزموه.
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم. ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعد إبراهيم. عرفتها على لسان نوح وهود وصالح وربما إدريس، وغيره من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة، ويعيش بها، ولها. فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه؛ وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل، وأشبه أبنائه به: محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وقائل كلمة التوحيد في صورتها الأخيرة الكاملة الشاملة، التي تجعل الحياة كلها تدور حول هذه الكلمة، وتجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان وكل تصور.
فهذه هي قصة التوحيد منذ أبيهم إبراهيم الذي ينتسبون إليه؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي جعلها إبراهيم باقية في عقبه. هذه هي تأتي إلى هذا الجيل على لسان واحد من عقب إبراهيم فكيف يستقبلها من ينتسبون إلى إبراهيم، وملة إبراهيم؟
لقد بعد بهم العهد؛ ومتعهم الله جيلاً بعد جيل، حتى طال عليهم العمر، ونسوا ملة إبراهيم، وأصبحت كلمة التوحيد فيهم غريبة منكرة، واستقبلوا صاحبها أسوأ استقبال وقاسوا الرسالة السماوية بالمقاييس الأرضية، فاختل في أيديهم كل ميزان:
{بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين. ولما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر وإنا به كافرون. وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون. ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا؛ والآخرة عند ربك للمتقين}.
يُضْرب السياق عن حديث إبراهيم، ويلتفت إلى القوم الحاضرين:
{بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين}..
وكأنه بهذا الإضراب يقول: لندع حديث إبراهيم، فما لهم به صلة ولا مناسبة؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم.. إن هؤلاء وآباءهم من قبلهم، قد هيأت لهم المتاع ومددت لهم في الأجل، حتى جاءهم الحق في هذا القرآن، وجاءهم رسول مبين، يعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبيين:
{ولما جاءهم الحق قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون}..
ولا يختلط الحق بالسحر. فهو واضح بين، وإنما هي دعوى، كانوا هم أول من يعرف بطلانها. فما كان كبراء قريش ليغيب عنهم أنه الحق؛ ولكنهم كانوا يخدعون الجماهير من خلفهم، فيقولون: إنه سحر، ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد، يقولون: {وإنا به كافرون} ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون؛ فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد. شأن الملأ من كل قوم، في التغرير بالجماهير، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير!
ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين؛ وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ليحمل إليهم الحق والنور:
{وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}!..
يقصدون بالقريتين مكة والطائف. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذؤابة قريش، ثم من ذؤابة بني هاشم. وهم في العلية من العرب. كما كان شخصه صلى الله عليه وسلم معروفاً بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته. ولكنه لم يكن زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، في بيئته تعتز بمثل هذه القيم القبلية. وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}!
والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله سبحانه لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها؛ فاختار رجلاً ميزته الكبرى.. الخلق.. وهو من طبيعة هذه الدعوة.. وسمته البارزة.. التجرد.. وهو من حقيقة هذه الدعوة.. ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء. كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء. ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف.
ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض.
{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}!
فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله، التي يختار لها من عباده من يشاء؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها، ووزنها الصحيح في ميزان الله:
{أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خير مما يجمعون}..
أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجباً! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة.
{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً}..
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد، وظروف الحياة، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة، ومن عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة الباقية فيه، والتي لم تتخلف أبداً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع أنه متفاوت بين الأفراد.
وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً. ولم يقع يوماً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً: {ورفعنا بعضهم فوق بعضه درجات}..
والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور، وجميع البيئات، وجميع المجتمعات هي:
{ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً}..
ليسخر بعضهم بعضاً.. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما. وليس التسخير هو الاستعلاء.. استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد.. كلا! إن هذا معنى قريب ساذج، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد. كلا! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء.. إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف. المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة.. العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء.. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق..
وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية.
وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا!
وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع.
وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل. وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض. ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة. ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات، ولا تجد من يقوم بها والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها. وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق.. هذه هي القاعدة.. أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد. على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم. وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله. وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة.
ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا. ووراء ذلك رحمة الله:
{ورحمة ربك خير مما يجمعون}..
والله يختار لها من يشاء، ممن يعلم أنهم لها أهل. ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا. فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة. ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار، وينالها الصالحون والطالحون. بينما يختص برحمته المختارين.
وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث لو شاء الله لأغدقها إغداقاً على الكافرين به. ذلك إلا أن تكون فتنة للناس، تصدهم عن الإيمان بالله:
{ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون. ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون. وزخرفاً. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا. والآخرة عند ربك للمتقين}..
فهكذا لولا أن يفتتن الناس. والله أعلم بضعفهم وتأثير عرض الدنيا في قلوبهم لجعل لمن يكفر بالرحمن صاحب الرحمة الكبيرة العميقة بيوتاً سقفها من فضة، وسلالمها من ذهب.
بيوتاً ذات أبواب كثيرة. قصورا. فيها سرر للاتكاء، وفيها زخرف للزينة.. رمزاً لهوان هذه الفضة والذهب والزخرف والمتاع؛ بحيث تبذل هكذا رخيصة لمن يكفر بالرحمن!
{وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا}..
متاع زائل، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا.
{والآخرة عند ربك للمتقين}..
وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم؛ فهو يدخر لهم ما هو أكرم وأبقى؛ ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!
وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية؛ أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه؛ ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا؛ ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال. يرون هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار!
وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها؛ ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة؛ ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد؛ واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!
وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة؛ ويحسبون أن التطور والتغير، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته! فأما نحن أصحاب العقيدة الإسلامية فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات.
وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال.
ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله، ولا يشير إلى فلاح؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين، استطراد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض، وهم عمي عن ذكر الله، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين:
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. فبئس القرين. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}..
والعشى كلال البصر عن الرؤية، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله. وقد يكون ذلك لمرض خاص. والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير.
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين}..
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك. واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه، ويصبح له قرين سوء يوسوس له، ويزين له السوء. وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب، كما قضاه الله في علمه.
ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون:
{وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}..
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة؛ ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيثوب؛ إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.
والتعبير بالفعل المضارع: {ليصدونهم}.. {ويحسبون}.. يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار؛ يراها الآخرون، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون.
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون:
{حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. فبئس القرين}!
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة، ويصل العمي {الذين يعشون عن ذكر الرحمن} إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال، وأوهمه أنه الهدى! وقاده في طريق الهلاك، وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول: {يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين}! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق!
ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله: {فبئس القرين}!
ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع:
{ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}!
فالعذاب كامل لا تخففه الشركة، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون!
عندئذ ينصرف عن هؤلاء، في مشهدهم البائس الكئيب؛ ويدعهم يتلاومون ويتشاتمون.
ويتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه عن هذا المصير البائس الذي انتهى إليه فريق من البشر؛ ويعزيه عن إعراضهم عنه وكفرهم بما جاء به؛ويثبته على الحق الذي اوحى إليه؛ وهو الحق الثابت المطرد من قديم، في رسالة كل رسول:
{أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين؟ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم. وإنه لذكر لك ولقومك، وسوف تسألون. واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟}..
وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبياناً لطبيعة الهدى والضلال، ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده؛ وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة، ومجال القدرة الإلهية الطليقة؛ وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره، وفي موضع من ألطف مواضعه:
{أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين}..
وهم ليسوا صماً ولا عمياً، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى، والإشارة إلى دلائله. ووظيفة الرسول أن يُسمع من يَسمع، وأن يهدي من يبصر. فإذا هم عطلوا جوارحهم، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم. فما للرسول إلى هداهم من سبيل؛ ولا عليه من ضلالهم، فقد قام بواجبه الذي يطيق.
والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود:
{فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون}..
والأمر لا يخرج عن هذين الحالين. فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه. وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به، فالله قادر على تحقيق النذير، وهم ليسوا له بمعجزين. ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين، وهو صاحب الدعوة. وما الرسول إلا رسول.
{فاستمسك بالذي أوحي إليك. إنك على صراط مستقيم}..
واثبت على ما أنت فيه، وسر في طريقك لا تحفل ما كان منهم وما يكون. سر في طريقك مطمئن القلب. {إنك على صراط مستقيم}.. لا يلتوي بك ولا ينحرف ولا يحيد.
وهذه العقيدة متصلة بحقيقة الكون الكبرى، متناسقة مع الناموس الكلي الذي يقوم عليه هذا الوجود. فهي مستقيمة معه لا تنفرج عنه ولا تنفصل.
وهي مؤدية بصاحبها إلى خالق هذا الوجود، على استقامة تؤمن معها الرحلة في ذلك الطريق!
والله سبحانه يثبت رسوله صلى الله عليه وسلم بتوكيد هذه الحقيقة. وفيها تثبيت كذلك للدعاة من بعده، مهما لاقوا من عنت الشاردين عن الطريق!
{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}..
ونص هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين:
أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير.
أو أن هذا القرآن يرفع ذكرك وذكر قومك. وهذا ما حدث فعلاً..
فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فإن مئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذكره وحبه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفتهم ودانت لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أن تخلوا عنه أنكرتهم الأرض، واستصغرتهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!
وإنها لتبعة ضخمة تسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلت عن الأمانة: {وسوف تسألون}..
وهذا المدلول الأخير أوسع وأشمل. وأنا إليه أميل.
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟}..
والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول. فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟
والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة.. صورة الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الرسل قبله عن هذه القضية: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟} وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول. وهي صورة طريفة حقاً. وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب.
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان.. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة أن تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين.. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب..
على أنه بالقياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شئ بعيد وآخر قريب. فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار.
حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويجاب، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج.
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره، حين نهتدي إلى طرف من قانونه. وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات. فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شئ آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام!
وفي سياق تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا. تجيء حلقة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان، وتساؤله في فخر وخيلاء: {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟}.. وانتفاخه على موسى عبد الله ورسوله وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟}.. واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون: {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين}..
وكأنما هي نسخة تكرر، أو اسطوانة تعاد!
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى عليه السلام وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء.
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين}..
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون!
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق. كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون!
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه، فقال: إني رسول رب العالمين. فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون}..
هنا يعرض حلقة اللقاء الأول بين موسى وفرعون، في إشارة مقتضبة تمهيداً لاستعراض النقطة الرئيسية المقصودة من القصة في هذا الموضع وهي تشابه اعتراضات فرعون وقيمه مع اعتراضات مشركي العرب وقيمهم ويلخص حقيقة رسالة موسى: {فقال: إني رسول رب العالمين}.
وهي ذات الحقيقة التي جاء بها كل رسول: أنه {رسول} وأن الذي أرسله هو {رب العالمين}..
ويشير كذلك إشارة سريعة إلى الآيات التي عرضها موسى، وينهي هذه الإشارة بطريقة استقبال القوم لها: {إذا هم منها يضحكون}.. شأن الجهال المتعالين!
يلي ذلك إشارة إلى ما أخذ الله به فرعون وملأه من الابتلاءات المفصلة في سور أخرى:
{وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون. وقالوا: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون. فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}..
وهكذا لم تكن الآيات التي ظهرت على يدي موسى عليه السلام مدعاة إيمان، وهي تأخذهم متتابعة. كل آية أكبر من أختها. مما يصدق قول الله تعالى في مواضع كثيرة، وفحواه أن الخوارق لا تهدي قلباً لم يتأهل للهدى؛ وأن الرسول لا يسمع الصم ولا يهدي العمي!
والعجب هنا فيما يحكيه القرآن عن فرعون وملئه قولهم: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون}.. فهم أمام البلاء، وهم يستغيثون بموسى ليرفع عنهم البلاء. ومع ذلك يقولون له: {يا أيها الساحر} ويقولون كذلك: {ادع لنا ربك بما عهد عندك} وهو يقول لهم: إنه رسول {رب العالمين} لا ربه هو وحده على جهة الاختصاص! ولكن لا الخوارق ولا كلام الرسول مس قلوبهم، ولا خالطتها بشاشة الإيمان، على الرغم من قولهم: {إننا لمهتدون}:
{فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون}..
ولكن الجماهير قد تؤخذ بالخوارق المعجزة، وقد يجد الحق سبيلاً إلى قلوبها المخدوعة. وهنا يبرز فرعون في جاهه وسلطانه، وفي زخرفه وزينته، يخلب عقول الجماهير الساذجة بمنطق سطحي، ولكنه يروج بين الجماهير المستعبدة في عهود الطغيان، المخدوعة بالأبهة والبريق:
{ونادى فرعون في قومه: قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين، ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين؟}.
إن ملك مصر وهذه الأنهار التي تجري من تحت فرعون، أمر قريب مشهود للجماهير، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه. فأما ملك السماوات والأرض وما بينهما ومصر لا تساوي هباءة فيه فهو أمر يحتاج إلى قلوب مؤمنة تحسه، وتعقد الموازنة بينه وبين ملك مصر الصغير الزهيد!
والجماهير المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها؛ ولا تسمو قلوبها ولا عقولها إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد!
ومن ثم عرف فرعون كيف يلعب بأوتار هذه القلوب ويستغفلها بالبريق القريب!
{أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟}.


في هذا الدرس الأخير من السورة يستطرد السياق إلى حكاية أساطيرهم حول عبادة الملائكة؛ ويحكي حادثاً من حوادث الجدل الذي كانوا يزاولونه، وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية، لا بقصد الوصول إلى الحق، ولكن مراء ومحالاً!
فلما قيل لهم: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة ثم عبدوها بذاتها. وقيل لهم: إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار. لما قيل لهم هذا ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم وقد عبده المنحرفون من قومه أهو في النار؟ وكان هذا مجرد جدل ومجرد مراء. ثم قالوا: إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر فنحن أهدى إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله! وكان هذا باطلاً يقوم على باطل.
وبهذه المناسبة يذكر السياق طرفاً من قصة عيسى ابن مريم، يكشف عن حقيقته وحقيقة دعوته، واختلاف قومه من قبله ومن بعده.
ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعاً بمجيء الساعة بغتة. وهنا يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين، وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين.
وينفي أساطيرهم عن الملائكة، وينزه الله سبحانه عما يصفون، ويعرفه لعباده ببعض صفاته؛ وملكيته المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة وإليه يرجعون.
ويختم السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصفح عنهم والإعراض ويدعهم ليعملوا ما سيعملون! وهو تهديد ملفوف يليق بالمجادلين المرائين بعد هذا الإيضاح والتبيين.
{ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون. وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟ ما ضربوه لك إلا جدلاً. بل هم قوم خصمون. إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل. ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون. وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون، هذا صراط مستقيم. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين}..
{ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعون. إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}..
ذكر ابن إسحاق في السيرة قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه. ثم تلا عليه وعليهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}.. الآيات.. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري التميمي حتى جلس. فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد! وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته. سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده. فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته»فأنزل الله عز وجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}.. أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون}.. أي يصدون عن أمرك بذلك.
وذكر صاحب الكشاف في تفسيره: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً. فقال عبد الله بن الزبعري: يا محمد. أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجيمع الأمم؟ فقال عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»فقال: خصمتك ورب الكعبة! ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي، وتثني عليه خيراً وعلى أمه؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما؟ وعزير يعبد؟ والملائكة يعبدون؟ فإن كل هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم! ففرحوا وضحكوا. وسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} ونزلت هذه الآية والمعنى: ولما ضرب عبدالله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إذا قومك} قريش من هذا المثل {يصدون} ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحاً وجذلاً وضحكاً بما سمعوا من إسكات رسول الله- صلى الله عليه وسلم بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأما من قرأ {يصدون} بالضم فمن الصدود. أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه.
وقيل: من الصديد وهو الجبة. وأنهما لغتان نحو يعكُف ويعكِف ونظائر لهما. {وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟} يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى؛ وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هيناً!.
ولم يذكر صاحب الكشاف من أين استقى روايته هذه. وهي تتفق في عمومها مع رواية ابن إسحاق.
ومن كليهما يتضح الالتواء في الجدل، والمراء في المناقشة. ويتضح ما يقرره القرآن عن طبيعة القوم وهو يقول: {بل هم قوم خصمون}.. ذوو لدد في الخصومة ومهارة. فهم يدركون من أول الأمر ما يقصد إليه القرآن الكريم وما يقصد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فيلوونه عن استقامته، ويتلمسون شبهة في عموم اللفظ فيدخلون منها بهذه المماحكات الجدلية، التي يغرم بمثلها كل من عدم الإخلاص، وفقد الاستقامة؛ يكابر في الحق، ويعمد إلى شبهة في لفظ أو عبارة أو منفذ خلفي للحقيقة! ومن ثم كان نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عن المراء، الذي لا يقصد به وجه الحق، إنما يراد به الغلبة من أي طريق.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، عن عبادة بن عبادة، عن جعفر، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن. فغضب غضباً شديداً، حتى كأنما صب على وجهه الخل. ثم قال: صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل». ثم تلا صلى الله عليه وسلم {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}..
وهناك احتمال في تفسير قوله تعالى: {وقالوا: أآلهتنا خير أم هو؟} يرشح له سياق الآيات في صدد أسطورتهم عن الملائكة. وهم أنهم عنوا أن عبادتهم للملائكة خير من عبادة النصارى لعيسى ابن مريم. بما أن الملائكة أقرب في طبيعتهم وأقرب نسباً حسب اسطورتهم من الله سبحانه وتعالى عما يصفون. ويكون التعقيب بقوله تعالى: {ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}.. يعني الرد على ابن الزبعري كما سبق. كما يعني أن ضربهم المثل بعبادة النصارى للمسيح باطل. فعمل النصارى ليس حجة لأنه انحراف عن التوحيد. كانحرافهم هم. فلا مجال للمفاضلة بين انحراف وانحراف. فكله ضلال. وقد أشار إلى هذا الوجه بعض المفسرين أيضاً. وهو قريب.
ومن ثم جاء التعقيب بعد هذا:
{إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل}..
فليس إلهاً يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه.
إنما هو عبد أنعم الله عليه. ولا جريرة له في عبادتهم إياه. فإنما أنعم الله عليه ليكون مثلاً لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به. فنسوا المثل، وضلوا السبيل!
واستطرد إلى أسطورتهم حول الملائكة، يبين لهم أن الملائكة خلق من خلق الله مثلهم. ولو شاء الله لجعل الملائكة يخلفونهم في هذه الأرض، أو لحول بعض الناس إلى ملائكة يخلفونهم في الأرض:
{ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون}..
فمرد الأمر إلى مشيئة الله في الخلق. وما يشاؤه من الخلق يكون. وليس أحد من خلقه يمت إليه بنسب، ولا يتصل به سبحانه إلا صلة المخلوق بالخالق، والعبد بالرب، والعابد بالمعبود.
ثم يعود إلى تقرير شئ عن عيسى عليه السلام. يذكرهم بأمر الساعة التي يكذبون بها أو يشكون فيها:
{وإنه لعلم الساعة. فلا تمترن بها. واتبعون. هذا صراط مستقيم. ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين}..
وقد وردت أحاديث شتى عن نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض قبيل الساعة وهو ما تشير إليه الآية: {وإنه لعلم للساعة} بمعنى أنه يُعلم بقرب مجيئها، والقراءة الثانية {وإنه لَعَلَم للساعة} بمعنى أمارة وعلامة. وكلاهما قريب من قريب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها».
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال: صل لنا. فيقول: لا. إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة».
وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم، ولا قول فيه لبشر إلا ما جاء من هذين المصدرين الثابتين إلى يوم الدين.
{فلا تمترن بها. واتبعون. هذا صراط مستقيم}..
وكانوا يشكون في الساعة، فالقرآن يدعوهم إلى اليقين. وكانوا يشردون عن الهدى، والقرآن يدعوهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباعه فإنه يسير بهم في الطريق المستقيم، القاصد الواصل الذي لا يضل سالكوه.
ويبين لهم أن انحرافهم وشردوهم أثر من اتباع الشيطان. والرسول أولى أن يتبعوه:
{ولا يصدنكم الشيطان. إنه لكم عدو مبين}..
والقرآن لا يفتأ يذكر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم، ومنذ المعركة الأولى في الجنة. وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدواً يقف له بالمرصاد، عن عمد وقصد، وسابق إنذار وإصرار؛ ثم لا يأخذ حذره؛ ثم يزيد فيصبح تابعاً لهذا العدو الصريح!
وقد أقام الإسلام الإنسان في هذه المعركة الدائمة بينه وبين الشيطان طوال حياته على هذه الأرض؛ ورصد له من الغنيمة إذا هو انتصر ما لا يخطر على قلب بشر، ورصد له من الخسران إذا هو اندحر ما لا يخطر كذلك على قلب بشر.
وبذلك حول طاقة القتال فيه إلى هذه المعركة الدائبة؛ التي تجعل من الإنسان إنساناً، وتجعل له طابعه الخاص بين أنواع الخلائق المتنوعة الطبائع والطباع! والتي تجعل أكبر هدف للإنسان على الأرض أن ينتصر على عدوه الشيطان؛ فينتصر على الشر والخبث والرجس؛ ويثبت في الأرض قوائم الخير والنصح والطهر.
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى عليه السلام وحقيقة ما جاء به؛ وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده:
{ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا الله وأطيعون. إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}..
فعيسى جاء قومه بالبينات الواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم. وقال لقومه: {قد جئتكم بالحكمة}. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير؛ واطمأن إلى خطواته في الطريق على اتزان وعلى نور. وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه. وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى عليه السلام وانقسموا فرقاً وشيعاً. ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله. وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض: {إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه}.. ولم يقل: إنه إله، ولم يقل: إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع. وقال لهم: إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج، ولا زلل فيه ولا ضلال. ولكن الذين جاءوا من بعده اختلفوا أحزاباً كما كان الذين من قبله مختلفين أحزاباً. اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة: {فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم}..
لق